الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي
قالوا: ونرى أنَّما أصله اللَّه في الدعاء. بمعنى (يا اللَّه) ضُم إليها أمَّ وحذف حرف النداء. يُراد يا الله آتنا الخير أي: أقصدنا به ثمّ ضرب في الكلام حتى اختلطت به. فحذفت الهمزة استخفافاً كقولهم: هلَّم إلينا كان أصلهُ هل لم إلينا، أي أقصد أو أسرع. ثم كُثرت هذه اللفظة حتى قالوا: لاهم بمعنى اللهم، وربما خفضوا ميمها أيضاً، واللَّه أعلم.وقال أبو رجاء العطاردي: هذه الميم في قوله: {اللَّهم}: تجمع سبعين اسماً من أسمائه عزَّ وجلَّ مالك المُلك. قال اللَّه تعالى في بعض الكتب: أنا اللَّه مالك الملوك ومالك الملك، قلوب الملوك ونواصيها بيدي، فإذا العباد أطاعوني جعلت عليهم رحمة، وإذا العباد عصوني جعلت عليهم عقوبة، فلا تشتغلوا بسبَّ الملوك، ولكن توبوا إليَّ اعطفهم عليكم.{تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}، قال مجاهد وسعيد بن جبير: يعني ملك النبوة، الكلبي: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ} محمد وأصحابه، {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}: أبي جهل وصناديد قريش.وقال معتصم: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: العرب. {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}: الروم والعجم وسائر الأمم.السدَّي: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: آتى اللَّه الأنبياء وأمر العباد بطاعتهم. {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}: نزع من الجبّارين وأمر العباد بخلافهم. وقيل: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: آدم وولده، {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} إبليس وجُنده.وقيل: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: داود. {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}: جالوت.وقيل: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: صخراً. {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}: سليمان عليه السلام كان يطعم الخبز الجواري ويأكل خبز الشعير، وكان يلبس المرقعة ولم ينظر أربعين سنة إلى السماء تخشيّاً لله.وكان يدخل المسجد فيرتاد فقيراً يقعد بجنبهِ، ويقول: مسكينٌ جالس مسكيناً {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}: ملك النفس حتى يغلبهُ هواه ويتخذهُ إلهاً. كما قال اللَّه عزَّ وجل {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الجاثية: 23].وقال الشاعر: آخر: وقيل: هو ملك العافية. قال اللَّه تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} [المائدة: 20].وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمناً في سربه. معافىً في بدنه، وعندهُ قوت يومهِ؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها».وقيل: هو القناعة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ملوك أمتي القانع يوماً بيوم، فمن أوتي ذلك فلم يقبلهُ بقبوله ولم يصبر عليه شاكراً قصر عملهُ، وقل عقلهُ».وعن ابن المبارك قال: دخلت على سفيان الثوري بمكة، فوجدتهُ مريضاً شارب دواء، وبه غمٌ شديد فسلمتُ عليه، وقلت: مالك يا عبد اللَّه؟ فقال: أنا مريضٌ شارب دواء وبيَّ غمٌ شديد، فقلتُ: أعندك بصلة؟ قال: نعم، فقلت: آتيني بها فأتاني بها، فكسرتها ثم قلتُ: شِمَّها فشَمَّها؛ فعطس عند ذلك فقال: الحمدُ لله ربَّ العالمين، فسكن ما به، فقال لي: يا بن المبارك أنت فقيه وطبيب أو قال: عالمٌ وطبيب، فقلت لهُ: مجرّب يا أبا عبد اللَّه. قال: فلمّا رأيته سكن ما بهِ وطابت نفسهُ. قلتُ: إني أريد أنْ أسألك حديثاً. فقال: سلْ ما شئتَ.فقلت: أخبرني ما الناس؟ قال: الفقهاء. قلتُ: فما الملوك؟ قال: الزَّهادْ. قلتُ: فما الاشراف؟ قال: الأتقياء. قلتُ: فما الغوغاء؟ قال: الذين يكتبون الأحاديث ليستأكلوا به أموال الناس. قلت له: أخبرني رحمك اللَّه: ما السفلة؟ قال: الظلمة. ثم ودّعتهُ وخرجت من عنده. قال: يا ابن المبارك عليك بهذا الخبر فإنهُ موجود رخيص قبل أنْ يغلوا فلا يوجد بالثمن.وقال عبد العزيز بن يحيى: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: يعني الملك على المهين وقهر الشيطان. كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الشيطان ليجري من بني آدم مجرى الدم».وقال تعالى: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: يعني ملك المعرفة، كما آتى السحرة: {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}، كما نزع من إبليس وبلعام.الحسين بن الفضل: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ}: يعني ملك الجنة كما آتى المؤمنين قال اللَّه تعالى: {وَمُلْكًا كَبِيرًا}، {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}: كما نُزع من الكفار وأهل النَّار.أبو عثمان: أراد (بالملك): توفيق للإيمان والطاعة.وحكى الاستاذ أبو سعيد الواعظ: إنَّهُ سمع بعض زهّاد اليمن يقول: هو قيام الليل.الشبلي: الاستغناء بالمكوِن عن الكونين.الواسطي: افتخر الملوك بالملك. فأخبرهم اللَّه تعالى أنَّ الملك زائل عندهم لقوله تعالى: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ}.قالت الحكماء في هذه الآية: هذا إخبار عن كمال القدرة. وأنَّ القادر على الكمال هو القادر على الشيء وضده، فأخبر أنَّه قادر على أن يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء.{وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ}: قال عطا: تعز من تشاء: المهاجرين والأنصار، وتذل من تشاء: فارس والروم.وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآء}: محمداً وأصحابه حين دخلوا مكة وعشرة آلاف ظاهرين عليها، وتذل من تشاء: أبا جهل وأصحابه حين حزَّوا رؤوسهم وألُقوا في القليب.وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ}: بالايمان والمعرفة. وتذل من تشاء: بالخذلان والحرمان.وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ}: بالتمليك والتسليط. وتذل من تشاء: بسلب الملك وتسليط عدوهُ عليه.الورّاق: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ}: بقهر النفس ومخالفة الهوى. {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ}: باتباع الهوى.الكياني: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ}: بقهرهِ الشيطان. {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ}: بقهر الشيطان لنا.وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ}: بالقناعة والرضا. {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ}: بالخزي والطمع.قال الثعلبي رحمه الله: وسمعتُ السلمي يقول: سمعت عبد اللَّه بن علي يقول: سمعت محمد بن الفضل يقول: سمعت الزبير بن عبد الواحد يقول: سمعت بنان الحمّال يقول: الحرَّ عبدٌ ما طمع. والعبد حرٌ ما قنع.وقال وهب: خرج الغنى والعز يجولان فلقيا القناعة فاستقرا.وقال عيسى عليه السلام لأصحابه: لأنتم أغنى من الملوك.قالوا: كيف يا روح اللَّه ولسنا نملك شيئاً؟قال: أنتم ليس عندكم شيء ولا تريدونها، وعندهم أشياء ولا تكفيهم.وللشافعي رضي الله عنه: وقال الآخر: وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ}: بالإخلاص، وتذلُ مَن تشاء: بالرياء.وقال الحسن بن الفضل: {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ}: بالجنة والرؤيا. {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ}: بالنار والحجاب. {بِيَدِكَ الْخَيْرُ}: يعني الخير والشر، فأكتفي بذكر الخير؛ فإنَّهُ الأفضل والاغلب كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81]: أي الحر والبرد {إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.{تُولِجُ الليل فِي النهار}: أي تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة وهو أطول ما يكون، والليل تسع ساعات، وهو أقصر ما يكون.{وَتُولِجُ النهار فِي الليل}: حتى يكون الليل خمس عشر ساعة، والنهار تسع ساعات فما نقص عن هذا زيدَ في الآخر نظير قوله تعالى: {يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل} [الزمر: 5].قال سعيد بن جبير: يوم وليلة ويوم وليلة عند خلق السماوات والأرض إلى أن تقوم الساعة، ثم قرأ: {يولج الليل في النهار ويولج النَّهار في الليل}. {يخرج الحي مِن الميت ويخرج الميتَ من الحي} قال ابن مسعود وابن جبير ومجاهد وقتادة والضحّاك وإبراهيم والسدَّي وإسماعيل بن أبي خالد وعبد الرحمن بن زيد: يخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة، ويخرج النطفة من الحيوان.عكرمة والكلبي: {يخرج الحي من الميت}، أي الفرخ من البيضة ويخرج البيضة من الطير.أبو مالك: يخرج النخلة من النواة، ويخرج النواة من النخلة، ويخرج السنبلة من الحبة والحبّة من السنبلة.الحسن: يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن، والمؤمن عبدٌ حي الفؤاد، والكافر عبدٌ ميتُ الفؤاد يدل عليه قوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ...} [الأنعام: 122].معمر عن الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه، فإذا بإمرأة حسنة الهيئة، فقال: من هذه؟ قالت: إحدى خالاتك، فقال: إن خالاتي بهذه البلاد كثير أي خالاتي هذه؟ قالت: هذه خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث، فقال: «سبحان اللَّه الذي يخرج الحي من الميت» وكانت امرأة صالحة. وكان مات أبوها كافراً.الفرّاء: يخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب.وقال أهل الاشارة: يخرج الحكمة من قلب الفاجر حتى لا تستقر فيه، والسَّقطة من لسان العارف. {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين} قال ابن عباس: كان الحجّاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد ظفروا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر وعبدالله بن حبير وسعد بن جهيمة لأولئك النفر: أجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا لزومهم ومخاطبتهم وملازمتهم فأنزل اللَّه تعالى فيهم هذه الآية.وقال المقاتلان: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، كانوا يظهرون المودَّة لكفار مكة فنهاهم اللَّه عزَّ وجل عن ذلك.الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: نزلت في المنافقين عبد اللَّه بن أُبي وأصحابه، كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار، ويرجون أنْ يكون لهم الظفر على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم.وروى يوسف بن داود الضبي عن بعضهم، قال: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون} بالرفع خبراً عنهم وفيه معنى النهي كقوله تعالى: {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].جوبير عن الضحاك عن ابن عباس: نزلت في عُبادة بن الصامت الأنصاري، وكان بدرياً تقياً، وكان له حلفاء من اليهود، فلمّا خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، قال عبادة: يا نبي اللَّه إنَّ معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهرتهم على العدَّو، فأنزل اللَّه تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ} الآية.{وَمَن يَفْعَلْ ذلك}: أي موالاة الكفار في نقل الأخبار إليهم، وإظهارهم على عدَّة المسلمين، {فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ}: وفيه اختصار، أي ليس من دين اللَّه في شيء.وقال الحسن والسدَّي: ليس من الولاية في شيء، فقد بريء اللَّه منهُ، ثم استثنى فقال: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}: يعني: إلاَّ أنْ تخافوا منهم مخافة.وقرأ أبو العالية عن الحسن، والضحاك وأبو رجاء وجابر بن زيد وحميد بن مجاهد: تقية على وزن نقية، وخالفهما أبو حاتم قال: لأنهم كتبوها بالياء مثل حصاة ونواة إلاَّ بالألف.قرأ حمزة والكسائي وخلف: {تقية} بالاحتجاج فكان الياء.وقرأ الباقون {تقاة} بالتضميم. وأختاره أبو عبيدة.وقرأ الأخفش: {تقاءة} مثل تكأة ويؤده ونحوها، وهي مصدر أتقى ومثال تقيهُ تُقاةً وتقية وتقيٌ وتقوى، وإذا قلت: اتقنت كان مصدرهُ الاتقاء، وإنَّما قال: (تتقوا) من الأتقياء، ثم قال: {تقاة} ولم يقل أتَّقاء؛ لأن العرب إذا كان بالكلمتين واحداً واختلف ألفاظها أخرجوا مصدر أحد اللفظين مصدر اللفظ الآخر فيقولون: التقيتُ فلاناً لقاءً حسناً.وقال القطامي في وصف غيث: ولم يقل حفراً قال اللَّه تعالى: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17]. وقال: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8].وأما معنى الآية فقال المفسرون: نهى اللَّه عزَّ وجلَّ المؤمنين عن ملاطفة الكافرين وموالاتهم ومداهنتهم ومبايعتهم إلاَّ أنْ يكون الكفَّار ظاهرين غالبين، أو يكون المؤمن في قوم كفَّار ليس فيهم غيره، ويخافهم ويداريهم باللسان وقلبه مطمئنُ بالإيمان دفعاً عن نفسه من غير أنْ يسفك دماً حراماً، أو مالاً حراماً، أو يُظهر الكافرين على عورة المؤمنين، فالمتَّقي لا يكون إلاَّ مع خوف القتل وسلامة النية كفعل عمار بن ياسر.عبد الرحمن بن حرملة عن ابن المسيب، قال: ورد رجلٌ على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال: ما أراني إلاَّ قد هلكت، قال: مالك؟ قال: قد عذّبني قريش. فقلت: ما قالوا؟ قال: كيف كان قلبك؟ قال: مطمئن، قال: فإنْ عادوا لك فعد لهم مثل ذلك، قالها ثلاث مرات.المسيب بن عبيدة عن إبراهيم، قال: قال ابن مسعود: خالطوا النَّاس ونائلوهم وصافحوهم بما يشتهون، ودينكم لا يكون به ريبة.وقال صعصعة بن صوحان لأسامة بن زيد: أنا كنت أحبُّ إلى أبيك منك، وأنت أحبُّ إليَّ من أبي ولذا أوصيك بخصلتين: خالص المؤمن وخالق الكافر؛ فإنَّ الكافر يرضى منك بالخلق الحسن، ويحق عليك أن تُخالص المؤمن.وروي عن جعفر بن محمد الصادق أنَّه قال: التقية واجبة، وإني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستر بالسارية منهُ لئلا يراني.وقال: الرياء مع المؤمن شرك ومع المنافق في داره عباده.وأنكر قوم التقيَّة اليوم:فقال معاذ بن جبل عن مجاهد: كانت التقيَّة في جُدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين، فأمّا اليوم فقد أعزَّ اللَّه عزَّ وجل الإسلام، فليس ينبغي لأهل الإسلام أنْ يتّقوا من عدوهم.وقال يحيى البكاء: قلتُ لسعيد بن جبير في أيام الحجّاج: إنَّ الحسن كان يقول لكم: التقيَّة باللسان والقلب مطمئن بالإيمان. قال سعيد: ليس في الإسلام تقيَّة إنَّما التقيّة في أهل الحرب.{وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ}: أي يخوّفكم اللَّه على موالاة الكفار وارتكاب المنهي ومخالفة المأمور من نفسه.قال المفسرون: من عذاب نفسه وعقوبته وبطشه.وقال أهل المعاني: معناه ويحذّركم اللَّه إيَّاه؛ لأن الشيء والنفس والذات والإسم عبارة عن الوجود، ونفس الشيء هو الشيء بعينه كقوله: {أَنِ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 66]: أي ليقتل بعضكم بعضاً.وقال الأعشى: أراد إذا البخيل تجهم سؤاله.{وإلى الله المصير}، {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ}: قلوبكم من مودة الكفَّار. {أَوْ تُبْدُوهُ}: من موالاتهم قولا وفعلا، {يَعْلَمْهُ الله}: وقال الكلبي: أي ستروا ما في قلوبكم لرسول اللَّه من التكذيب، ويظهرون بحربه. وقال: يعلمه اللَّه ويحفظ عليكم حتى يحاربكم به ويعاقبكم عليه، ثم قال: {وَيَعْلَمُ}: رفع على الاستئناف كقولهم: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ} [التوبة: 14، 15] بالرفع.وقوله: {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24]، ثم قال: {وَيُحِقُّ الحق} [الشورى: 24]: وكيف يخفى عليه موالاتكم الكافرين وميلكم إليهم، مودَّة بالقلب: أي معونة بالقلب والفعل.{والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ}: نصب يوماً، نزع حرف الصفة أي في يوم. وقيل: نصب بإضمار فعل، أي: إذكروا واتقوا {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً}: موفراً لم يبخس منه شيء. قراءة العامة بنصب الضاد على المفعول قد صدَّهم قوله: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً} [الكهف: 49]: وقرأ عبيد عن عُمير محضراً بكسر الضاد يريد أن عمله يحضره الجنَّة يسرع به من الحضور أو الحضر.{وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء}: جعل بعضهم خبراً في موضع النصب، وأعمل فيها الوجود وجعل عملت صلة لها، أي: ويجد عملها، وجَعله بعضه خبراً مستأنفاً، وحينئذ يجوز في {تَوَدُّ} الرفع، والجزم، دليل هذا التأويل: قراءة عبد اللَّه {وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ}. {لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا}: بين النفس {وَبَيْنَهُ}: يعني بين السوء {أَمَدَاً بَعِيداً}: والأمد: الأجل والغاية التَّي ينتهي إليها. قال اللَّه: {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً} [الجن: 25]، وقال: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد}[الحديد: 16].قال النابغة: قال السدي: أمداً بعيداً أي: مكان بعيد.مقاتل: كما بين المشرق والمغرب.قال الحسن: ليس أحدهم أن لا يلقى عمله أبداً ولا يوَدَّ لو أن يعلمه.{وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَؤُوفٌ بالعباد}: أي بالمؤمنين منهم.{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} الآية، قال الحسن وابن جريج: زعم أقوام على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنَّهم يحبَّون اللَّه، فقالوا: يا محمَّد إنَّا نحبُ ربَّنا، فأنزل اللَّه عز وجل هذه الآية، وجعل إتبَّاع نبيه عَلماً لحبَّه تعالى.وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم وعلَّقوا عليها بعض النعام وجعلوا في آذانها السيوف وهم يسجدون لها. فقال: يا معشر قريش واللَّه لقد خالفتم ملَّة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كانا على الإسلام. فقالت له قريش: يا محمَّد إنَّا نعبدها حبَّاً لله، ليقرّبونا إلى الله زلفى، فقال الله تعالى: قل يا محمّد إنْ كنتم تحبّون الله وتعبدون الأصنام ليقرّبوكم إليه فاتبعوني يحببكم اللَّه، وأنا رسوله إليكم وحجتَّه عليكم وأنا أولى بالتعظيم من الأصنام.وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: إنَّ اليهود لمَّا قالوا: نحن أبناء اللَّه وأحباؤه، أنزل اللَّه هذه الآية، فلمَّا نزلت عرضها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على اليهود، فأبوا أن يقبلوها.روى محمد بن إسحاق عن محمَّد بن جعفر عن الزبير: قال: نزلت في نصارى أهل نجران وذلك أنَّهم قالوا: إنَّا نعظم المسيح ونعبده حبَّاً لله سبحانه وتعظيماً له، فقال الله: قل يا محمّد: إنْ كنتم تحبّون الله وكان عظيم قولكم في عيسى حبّاً لله سبحانه وتعالى وتعظيماً له فاتَّبعوني يحببكم اللَّه، أي: إتَّبعوا شريعتي وسنتي يحببكم اللَّه، وحب المؤمنين لله إتباعهم أمره وقصدهم طاعته ورضاه، وحبَّه عزَّ وجلَّ للمؤمنين منّة عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم وذلك قوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.قال الثعلبي: أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو أحمد محمد بن ابراهيم الصريمي قال: أنشدنا علي بن محمد قال: أنشدني الحسن بن إبراهيم البجلي لعبد اللَّه بن المبارك: عروه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشرك أخفّ من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحبّ على شيء من الجور أو تبغض على شيء من العدل وهل الدين إلاّ الحبّ في الله والبغض في الله قال اللَّه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله}».فلما نزلت هذه الآية قال عبد اللَّه بن أُبي لأصحابه: إنّ محمّداً يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبّه كما أحبت النصارى عيسى ابن مريم، فنزل: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ}: أعرضوا عن طاعتهما. {فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين}: لا يرضى فعلهم ولا شيء لهم ولا يغفر لهم.وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع اللَّه ومن أطاع الإمام فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى اللَّه ومن عصى الإمام فقد عصاني».
|